فصل: باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الأحْكَامِ

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِي‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإمَامُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل على وجوب طاعة السلطان وجوبًا مجملا؛ لأن فى ذلك طاعة الله وطاعة رسوله، فمن ائتمر لطاعة أولى الأمر لأمر الله ورسوله بذلك فطاعتهم واجبة فيما رأوه من وجوه الصلاح حتى إذا خرجوا إلى ما يشك أنه معصية لله لم تلزمهم طاعتهم فيه وطلب الخروج عن طاعتهم بغير مواجهة فى الخلاف‏.‏

وروى عن أبى هريرة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولى الأمر منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، قال‏:‏ هم الأمراء‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هم الأمراء والعلماء‏.‏

وكان مجاهد يقول‏:‏ هم أصحاب محمد‏.‏

وربما قال‏:‏ أولو العقل والفقه فى دين الله‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هم أهل العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة‏.‏

قال ابن عيينة‏:‏ سألت زيد بن أسلم، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب تفسيره، قلت له‏:‏ ما تقول فى قول الله‏:‏ ‏(‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ اقرأ ما قبلها حتى تعرف‏.‏

فقرأت‏:‏ ‏(‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ هذه فى الولاة‏.‏

وفى حديث ابن عمر أن فرضًا على الأمراء نصح من ولاهم الله أمرهم، وكذلك كل من ذكر فى الحديث ممن استرعى أمرًا أو اؤتمن عليه فالواجب عليه بذل النصيحة فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من استرعى رعية فلم يحطها بنصيحة لم يرح رائحة الجنة‏)‏ وسيأتى هذا الحديث بعد هذا فى باب من استرعى رعية ولم ينصح‏.‏

باب الأمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ

- فيه‏:‏ مُعَاوِيَةَ أَنَّه بلغه أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ رِجَالا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأمَانِىَّ الَّتِى تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَذَا الأمْرَ فِى قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلا كَبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ قَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَزَالُ هَذَا الأمْرُ فِى قُرَيْشٍ مَا بَقِىَ مِنْهُمُ اثْنَانِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا يرد قول النظام وضرار ومن وافقهما من الخوارج أن الإمام ليس من شرطه أن يكون قرشيا‏.‏

قالوا‏:‏ وإنما استحق الإمامة من كان قائمًا بالكتاب والسنة من أفناء الناس من العجم وغيرهم‏.‏

قال ضرار‏:‏ وإن اجتمع رجلان قرشى ونبطى ولَّينا النبطى؛ لأنه أقل عشيرة، فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته علينا أهون‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ وهذا قول ساقط لم يعرج المسلمون عليه، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الخلافة فى قريش، وعمل بذلك المسلمون قرنًا بعد قرن فلا معنى لقولهم، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بالأنصار، وقال‏:‏ ‏(‏من ولى منكم من هذا الأمر شيئًا فليتجاوز عن مسيئهم‏)‏ ولو كان الأمر إليهم كما أوصى بهم‏.‏

ومما يشهد لصحة هذه الأحاديث احتجاج أبى بكر وعمر بها على رءوس الأنصار فى السقيفة، وما كان من إذعان الأنصار، وخنوعهم لها عند سماعها وإذكارهم بها حتى قال سعد بن عبادة‏:‏ منا الوزراء، ومنكم الأمراء‏.‏

ورجعت الأنصار عما كانوا عليه حين تبين لهم الحق بعد أن نصبوا الحرب، وقال الحباب بن المنذر‏:‏ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب‏.‏

وانقادوا لأبى بكر مذعنين‏.‏

ولولا علمهم بصحة هذه الأخبار لم يلبثوا أن يقدحوا فيها، ويتعاطوا ردها، ولا كانت قريش بأسرها تقر كذبًا يدعى عليها؛ لأن العادة جرت فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف والقدح فيها عند التنازع، ولا سيما إذا احتج به فى هذا الأمر العظيم مع إشهار السيوف، واختلاط القول‏.‏

ومما يدل على كون الإمام قريشا اتفاق الأمة فى الصدر الأول وبعده من الأعصار على اعتبار ذلك فى صفة الإمام قبل حدوث الخلاف فى ذلك، فثبت أن الحق فى اجتماعها وإبطال قول من خالفها، وسيأتى فى كتاب الرجم فى باب الرجم للحبلى من الزنا إذا أحصنت شىء من هذا المعنى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما حديث عبد الله بن عمرو أنه سيكون ملك من قحطان، فيحتمل أن يكون ملكًا غير خليفة على الناس من غير رضا به، وإنما أنكر ذلك معاوية لئلا يظن أحد أن الخلافة تجوز فى غير قريش، ولو كان عند أحد فى ذلك علم من النبى صلى الله عليه وسلم لأخبر به معاوية حين خطب بإنكار ذلك عليهم، وقد روى فى الحديث أن ذلك إنما يكون عند ظهور أشراط الساعة وتغيير الدين، روى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه‏)‏ فقوله‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة‏)‏ يدل أن ذلك من أشراط القيامة ومما لا يجوز، ولذلك ترجم البخارى بهذا الحديث فى كتاب الفتن فى باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، وفهم منه هذا المعنى‏.‏

باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ‏:‏ قَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ‏:‏ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى عن الشعبى أنه سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ و‏)‏ الظلمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ و‏)‏ الفاسقون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏ فقال‏:‏ الكافرون فى أهل الإسلام، والظالمون فى اليهود، والفاسقون فى النصارى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ نزلت فى أهل الكتاب، تركوا أحكام الله كلها، يعنى فى الرجم والديات‏.‏

قال الحسن‏:‏ وهى علينا واجبة‏.‏

قال عطاء وطاوس‏:‏ كفر ليس ككفر الشرك وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وظاهر الآيات تدل أن من فعل مثل ما فعلوا، واخترع حكمًا خالف به حكم الله وجعله دينًا يعمل به لزمه مثل ما لزمهم من لزوم الوعيد حاكمًا كان أو غيره، ألا ترى أن ذلك نسب إلى جملة اليهود حين عملوا به‏؟‏ قال المؤلف‏:‏ ودلت الآيات على أن من قضى بما أنزل الله فقد استحق جزيل الأجر، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم أباح حسده ومنافسته، فدل أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما تقرب به إلى الله، وقد روى ابن المنذر، عن محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن على، حدثنا عمران القطان أبو العوام، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن ابن أبى أوفى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله مع القاضى ما لم يجر؛ فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان‏)‏‏.‏

باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَيَمُوتُ إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىٍّ‏:‏ أَنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِى‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى قَالَ‏:‏ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنَ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا‏؟‏ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏

قال محمد بن جرير‏:‏ فى حديث على وحديث ابن عمر البيان الواضح عن نهى الله على لسان رسوله عباده عن طاعة مخلوق فى معصية خالقه، سلطانًا كان الآمر بذلك، أو سوقة، أو والدًا، أو كائنًا من كان‏.‏

فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا من الناس فى أمر قد صح عنده نهى الله عنه‏.‏

فإن ظن ظان أن فى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى‏)‏ وفى قوله فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر‏)‏ حجة لمن أقدم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره، وقال‏:‏ قد وردت الأخبار بالسمع والطاعة لولاة الأمر فقد ظن خطئًا، وذلك أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن تتضاد، ونهيه وأمره لا يجوز أن يتناقض أو يتعارض، وإنما الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن خلافًا لأمر الله وأمر رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا فى معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك قال عامة السلف‏.‏

حدثنا أبو كريب قال‏:‏ حدثنا ابن إدريس، قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن مصعب بن سعد قال‏:‏ قال على، رضى الله عنه‏:‏ حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدى الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا ويطيعوا‏.‏

وروى مثله عن معاذ بن جبل‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى‏)‏ لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشى، لما تقدم أنه لا تجوز الإمامة إلا فى قريش، وإنما أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة فى العبيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من رأى شيئًا يكرهه فليصبر‏)‏ يعنى‏:‏ من الظلم والجور‏.‏

فأما من رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول، فإن لم يكن معه إلا قطعة من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحل له الخروج‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ أجمعت الأمة أنه يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته كفره بعد الإيمان، وتركه إقامة الصلاة والدعاء إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالمًا غاصبًا للأموال؛ يضرب الأبشار ويتناول النفوس المحرمة ويضيع الحدود ويعطل الحقوق فقال كثير من الناس‏:‏ يجب خلعه لذلك‏.‏

وقال الجمهور من الأمة وأهل الحديث‏:‏ لا يخلع بهذه الأمور، ولا يجب الخروج عليه؛ بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته فيما يدعو إليه من معاصى الله، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسمعوا، وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى‏)‏ وأمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر، وروى أنه قال‏:‏ أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك ما أقاموا الصلاة‏)‏‏.‏

قال القاضى أبو بكر‏:‏ ومما يوجب خلع الإمام تطابق الجنون عليه وذهاب تمييزه حتى ييئس من صحته، وكذلك إن صم أو خرس وكبر وهرم، أو عرض له أمر يقطعه من مصالح الأمة؛ لأنه إنما نصب لذلك؛ فإذا عطل ذلك وجب خلعه، وكذلك إن جعل مأسورًا فى أيدى العدو إلى مدة يخاف معها الضرر الداخل على الأمة وييئس من خلاصه وجب الاستبدال به‏.‏

فإن فك أسره وثاب عقله أو برئ من زمانته ومرضه لم يعد إلى أمره وكان رعية للأول؛ لأنه عقد له عند خلعه وخروجه من الحق فلا حق له فيه، ولا يوجب خلعه حدوث فضل فى غيره كما يقول أصحابنا‏:‏ إن حدوث الفسق فى الإمام بعد العقد لا يوجب خلعه، ولو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب العدول عنه‏.‏

وأمثال هذا فى الشريعة كثير، منها أن المتيمم لو وجد الماء قبل دخوله فى الصلاة لوجب عليه الوضوء به، ولو طرأ عليه وهو فيها لم يلزمه، وكذلك لو وجبت عليه الرقبة فى الكفارة وهو موسر لم يجزئه غيرها، ولو حدث له اليسار بعد مضيه فى شىء من الصيام لم يبطل حكم صيامه ولا لزمه غيره‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله فى حديث على‏:‏ ‏(‏لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا‏)‏ فالأبد هاهنا يراد به أبد الدنيا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، ومعلوم أن الذين هموا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجب عليهم التخليد أبد الآخرة، ألا ترى قولهم‏:‏ ‏(‏إنما اتبعنا النبى صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار‏)‏ فدل هذا أنه أراد صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدة الدنيا، والله أعلم‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الإمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا

- فيه‏:‏ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ‏)‏‏.‏

وترجم له باب من سأل الإمارة وكل إليها‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل على أنه من تعاطى أمرًا وسولت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر أنه يخذل فيه فى أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلا لها، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وكل إليها‏)‏ بمعنى لم يعن على ما أعطاه، والتعاطى أبدًا مقرون بالخذلان، وإن من دعى إلى عمل أو إمامة فى الدين فقصر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمر الله؛ رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنى على أنه من تواضع لله رفعه، وذكر ابن المنذر من حديث أبى عوانة، عن عبد الأعلى التغلبى، عن بلال بن مرداس الفزارى، عن حميد، عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من ابتغى القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله إليه ملكًا يسدده‏)‏ وهذا تفسير قوله‏:‏ ‏(‏أعنت عليها‏)‏ فى حديث ابن سمرة‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإمَارَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ لَهُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى‏:‏ ‏(‏دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِى، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ‏:‏ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّا لا نُوَلِّى هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ حرص الناس على الإمارة ظاهر العيان، وهو الذى جعل الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون فى الأرض حين يصلون بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لابد أن يكون فطامهم إلى السوء وبئس الحال؛ لأنه لا يخلو أن يقتل عليها أو يعزل عنها وتلحقه الذلة أو يموت عليها فيطالب فى الآخرة فيندم‏.‏

والحرص الذى اتهم النبى صلى الله عليه وسلم صاحبه ولم يوله هو أن يطلب من الإمارة ما هو قائم لغيره متواطئًا عليه، فهذا لا يجب أن يعان عليه ويتهم طالبه، وأما إن حرص على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين أو حرص على سد خلة فيهم، وإن كان له أمثال فى الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا، فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع ولا يتهم هذا إن شاء الله‏.‏

وبين هذا المعنى حديث خالد بن الوليد حين أخذ الراية من غير إمرة ففتح له‏.‏

باب مَنِ اسْتُرْعِىَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ

- فيه‏:‏ الْحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ‏:‏ إِنِّى مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏ما من وال يلى رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ النصيحة فرض على الوالى لرعيته وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأمير الذى على الناس راع ومسئول عن رعيته‏)‏ فمن ضيع من استرعاه الله أمرهم أو خانهم أو ظلمهم؛ فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة‏؟‏ وهذا الحديث بيان وعيد شديد على أئمة الجور‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم يجد رائحة الجنة‏)‏ و ‏(‏حرم الله عليه الجنة‏)‏ فمعناه عند أهل السنة إن لم يرض الله الطالبين عنه فأراد تعالى أن ينفذ عليه الوعيد؛ لأن المذنبين من المؤمنين فى مشيئة الله تعالى‏.‏

ويجب على الوالى أن لا يحتجب عن المظلومين، فقد جاء فى ذلك وعيد شديد‏.‏

روى الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبى مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبى مريم الفلسطينى، وكان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من ولى من أمور الناس شيئًا فاحتجب عن خلتهم وحاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن خلته وحاجته وفاقته‏)‏‏.‏

ويجب على الوالى أن لا يولى أحدًا من عصابته، وفى الناس من هو أرضى منه، فقد روى عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنهم إن فعلوا ذلك فقد خانوا الله ورسوله، وخانوا جميع المؤمنين‏.‏

باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ

- فيه‏:‏ طَرِيفٍ أَبُو تَمِيمَةَ، قَالَ‏:‏ شَهِدْتُ صَفْوَانَ، وَجُنْدَبًا، وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا‏:‏ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا‏:‏ أَوْصِنَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ‏)‏‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سمع سمع الله به‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ سمعت بالرجل‏:‏ إذا أذعت عنه عيبًا والسمعة‏:‏ ما سمع به من طعام أو غيره ليرى ويسمع ‏(‏ومصداق هذا الحديث فى كتاب الله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ومن يشاقق يشقق الله عليه‏)‏ فالمشاقاة فى اللغة مشتقة من الشقاق وهو الخلاف، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ الآية‏.‏

والمراد بالحديث النهى عن القول القبيح فى المؤمنين وكشف مساوئهم وعيوبهم وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم، والنهى عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم‏.‏

وفى الحديث من المعانى أن المجازاة قد تكون من جنس الذنب، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سمع سمع الله به، ومن يشاقق يشقق الله عليه‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ شق الأمر عليك مشقة‏:‏ أضر بك‏.‏

وفى وصية أبى تميمة الحض على أكل الحلال والكف عن الدماء‏.‏

باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِى الطَّرِيقِ

وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الطَّرِيقِ، وَقَضَى الشَّعْبِىُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسُ‏:‏ بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ‏؟‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا‏؟‏ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ‏:‏ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الفتوى فى الطريق على الدابة وما يشاكلها من التواضع لله عز وجل فإن كان الفتوى لضعيف أو جاهل فهو محمود عند الله وعند الناس وإن تكلف ذلك لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه للحاكم أن يترك مكانه وخطته‏.‏

واختلف أصحاب مالك فى القضاء سائرًا أو ماشيئًا، فقال أشهب‏:‏ لا بأس بذلك إذا لم يشغله السير أو المشى عن الفهم‏.‏

وقال سحنون‏:‏ لا ينبغى أن يقضى وهو يسير أو يمشى، وقال ابن حبيب‏:‏ ما كان من ذلك يسيرًا كالذى يأمر بسجن من وجب عليه أو يأمر بشىء أو يكف عن شىء فلا بأس بذلك، وأما أن يبتدئ نظرًا ويرجع الخصوم وما أشبه ذلك فلا ينبغى‏.‏

وهذا قول حسن‏.‏

وقول أشهب أشبه بدليل الحديث‏.‏

وفيه دليل على جواز تنكيب العالم بالفتيا عن نفس ما سئل عنه إذا كانت المسألة لا تعرف أو كان مما لا حاجة بالناس إلى معرفتها، وكانت مما يخشى منها الفتنة وسوء التأويل‏.‏

باب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ

- فيه‏:‏ أَنَسَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِىَ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى، فَقَالَتْ‏:‏ إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِى، فَجَاوَزَهَا، وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ مَا عَرَفْتُهُ، قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ لم يكن للنبى بواب راتب، وقد جاء فى حديث القف والمشربة أنه كان له بواب، فدل حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن على شغل من أهله ولا انفراد لشىء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالبيه وذوى الحاجة إليه؛ لأن الله قد كان أمنه أن يغتال أو يهاج أو تطلب غرته فيقتل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ وقد أراد عمر بن عبد العزيز أن يسلك هذه الطريقة تواضعًا لله فمنع الشرط والبوابين فتكاثر الناس تكاثرًا اضطره إلى الشرط فقال‏:‏ لابد للسلطان من وزعة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ دل حديث عمر حين استأذن له الأسود على النبى صلى الله عليه وسلم فى المشربة أنه فى وقت خلوته وشغله بنفسه فيما لابد له منه كان يتخذ بوابًا؛ ليعلم من قصده أنه خال فيما لابد له منه، ولولا ذلك لم يكن لعمر حاجة إلى مسألة الأسود للاستئذان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل كان يكون هو المستأذن لنفسه فبان بحديث عمر أن معنى رواية من روى عنه أنه لم يكن له بواب يريد فى الأوقات التى كان يظهر فيها للناس ويبرز إليهم، وأما فى وقت حاجته وخلوته فلا‏.‏

وعلى هذا النحو من فعله صلى الله عليه وسلم فى اتخاذه البواب، ورفعه الحجاب والبواب عن بابه وبروزه لطالبه كان احتجاب من احتجب من اللأئمة واتخاذ من اتخذ البواب وظهور من ظهر للناس منهم‏.‏

وروى شعبة، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر لما قدم على عثمان قال‏:‏ ‏(‏يا أمير المؤمنين، افتح الباب يدخل الناس‏)‏ فدل هذا الحديث عن عثمان أنه كان يبرز أحيانًا، ويظهر لأهل الحاجة، ويحتجب أحيانًا فى أوقات حاجاته، ونظير ذلك كان يفعل عمر بن عبد العزيز‏.‏

روى عن جرير، عن مغيرة، عن زيد الطيب قال‏:‏ دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لى‏:‏ ما يقول الناس‏؟‏ قلت‏:‏ يقولون‏:‏ إنك شديد الحجاب‏.‏

فقال‏:‏ لابد لى أن أخلو فيما يرفع إلىّ الناس من المظالم، فأنظر فيها‏.‏

باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإمَامِ الَّذِى فَوْقَهُ

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأمِيرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ، وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ بن جبل‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى‏:‏ أَنَّ رَجُلا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ مَا لِهَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ‏:‏ لا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب فقال ابن القاسم فى المجموعة‏:‏ لا يقيم الحدود فى القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار ولا يقام القتل بمصر كلها إلا بالفسطاط أو يكتب إلى والى الفسطاط بذلك‏.‏

وقال أشهب‏:‏ من ولاه الأمير وجعله واليًا على بعض المياه، وجعل ذلك إليه فليقم الحد فى القتل والقطع وغيره، وإن لم يجعله إليه فلا يقيمه‏.‏

وذكر الطحاوى عن أصحابه الكوفيين قال‏:‏ لا يقيم الحدود إلا أمراء الأمصار وحكامها، ولا يقيمها عامل السواد ونحوه‏.‏

وذكر عن مالك قال‏:‏ لا يقيم الحدود كل الولاة فى الأمصار والسواد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا كان الوالى عدلا يضع الصدقة مواضعها فله عقوبة غل صدقته، وإن لم يكن عدلا لم يكن له أن يعزره‏.‏

والحجة لمن رأى للحاكم والوالى إقامة الحدود دون الإمام الذى فوقه حديث معاذ أنه قتل المرتد دون أن يرفع أمره إلى النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذهب الكوفيون إلى أن القاضى حكمه حكم الوكيل لا تنطلق يده إلا على ما أذن له فيه وأطلق عليه، وحكمه عند من خالفهم حكم الوصى له التصرف فى كل شىء، وتنطلق يده على النظر فى جميع الأشياء ما لم يستثن عليه وجه، فلا يجوز أن ينظر فيه‏.‏

باب هَلْ يَقْضِى الْقَاضِى أَوْ يُفْتِى وَهُوَ غَضْبَانُ‏؟‏

- فيه‏:‏ أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّه كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لا تَقْضِىَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى وَاللَّهِ لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ‏:‏ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقضى بين اثنين وهو غضبان‏)‏ ندب منه خوف التجاوز، ولذلك كره العلماء أن يقضى القاضى وهو غضبان، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قضى النبى صلى الله عليه وسلم وهو غضبان‏.‏

قيل‏:‏ إنما فعل ذلك لأنه لم يخش التجاوز والميل فى حكمه؛ لأنه معصوم بخلاف غيره من البشر، وإنما يستعمل الغضب فى القضاء والفتيا كما استعمله النبى صلى الله عليه وسلم أنه رأى شيئًا من الشريعة والسنة قد غير عن حاله، ومن الأحوال التى تكره للقاضى أن يقضى فيها أن يكون جائعًا، روى عن شريح أنه كان إذا غضب أو جاع قام‏.‏

وكان الشعبى يأكل عند طلوع الشمس فقيل له‏.‏

فقال‏:‏ آخذ حلمى قبل أن أخرج إلى القضاء‏.‏

ولا يقضى ناعسًا ولا مغمومًا‏.‏

قال الشعبى‏:‏ وأى حال جاءت عليه مما يعلم أنها تغير عقله أو فهمه امتنع من القضاء فيها‏.‏

باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِى أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ

كَمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ‏:‏ ‏(‏خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا‏؟‏ قَالَ لَهَا‏:‏ لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى القاضى هل يقضى بعلمه‏؟‏ فقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ جائز له أن يقضى بعلمه فى حقوق الله وحقوق الناس، سواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده، فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف، وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه فى قول أبى حنيفة‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقضى بعلمه أصلا فى حقوق الله وحقوق الآدميين، وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو فى مجلسه‏.‏

هذا قول شريح والشعبى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، وقال الأوزاعى‏:‏ ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه عليهما إلا الحدود‏.‏

واحتج الشافعى بحديث هند وأن النبى صلى الله عليه وسلم قضى لها ولولدها على أبى سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بينة؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة ولدها واجبة فى ماله، فحكم بذلك على أبى سفيان لعلمه بوجوب ذلك، وأيضًا فإنه متيقن لصحة ما يقضى به إذا علمه علم يقين وليس كذلك الشهادة؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة‏.‏

وقد أجمعوا على أنه له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أن ماشهدوا به على غير ما شهدوا به، وينفذ علمه فى ذلك ولا يقضى بشهادتهم، مثال ذلك أن يعلم بنتًا لرجل ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنها مملوكته فلا يجوز أن يقبل شهادتهما ويبيح له فرجًا حرامًا، وكذلك لو رأى رجلا قتل رجلا، ثم جئ بغير القاتل وشهد شاهدان أنه القاتل فلا يجوز أن يقبل الشهادة، وكذلك لو سمع رجلا طلق امرأته طلاقًا بائنًا، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق وأنكر ذلك الزوج، فإن جعل القول قوله فقد أقامه على فرج حرام فيفسق به، ولم يكن له بد من أن لا يقبل قوله فيحكم بعلمه‏.‏

واحتج أصحاب أبى حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء فإنما حصل فى حال الابتداء على طريق الشهادة فلم يجز أن نجعله حاكمًا؛ لأنه لو حكم له لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متهمًا، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضًا فإن علمه لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة فإذا قضى به صار كالقاضى بشاهد واحد‏.‏

قالوا‏:‏ والدليل على جواز حكمه بما علمه فى حال القضاء وفى مجلسه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما أقضى على نحو ما أسمع‏)‏ ولم يفرق بين سماعه من الشهود أو المدعى عليه فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعى عليه كما يحكم بما سمعه من الشهود‏.‏

واحتج أصحاب مالك فقالوا‏:‏ الحاكم غير معصوم، ويجوز أن تلحقه الظنة فى أن يحكم لوليه على عدوه، فحسمت المادة فى ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنه ينفرد به ولا يشركه غيره فيه‏.‏

وأيضًا فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى حديث اللعان‏:‏ ‏(‏إن جاءت به على نعت كذا فهو للذى رميت به فجاءت به على العنت المكروه‏)‏، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت هذه‏)‏ وقد علم أنها زنت فلم يرجمها لعدم البينة، والنبى صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يقطع أنها تأتى به على أحد النعتين فقد قطع على أنها إن جاءت به على أحدهما، فهو لمن وصف لا محالة، وهذا لا يكون منه إلا بعلم‏.‏

وروى عن أبى بكر الصديق أنه قال‏:‏ لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى يشهد بذلك عندى شاهدان‏.‏

ولا مخالف له فى الصحابة‏.‏

باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ‏؟‏ وَمَا يَضِيقُ فِيهِ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ، وَالْقَاضِى

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلا فِى الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ‏.‏

وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِى الْجَارُودِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ فِى سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ كِتَابُ الْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ‏.‏

وَكَانَ الشَّعْبِىُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِى، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِالْكَرِيمِ الثَّقَفِىُّ‏:‏ شَهِدْتُ عَبْدَالْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِىَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلالَ بْنَ أَبِى بُرْدَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِى جِىءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ‏:‏ إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ‏:‏ اذْهَبْ، فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِى الْبَيِّنَةَ‏:‏ ابْنُ أَبِى لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ‏.‏

وقال أَبُو نُعَيْمٍ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِى الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِى عِنْدَ فُلانٍ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَجَازَهُ‏.‏

وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لا يَدْرِى لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا‏.‏

وَقَدْ كَتَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ‏:‏ إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ فِى الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ‏:‏ إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ، وَإِلا فَلا تَشْهَدْ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ أَنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لما أراد أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قَالُوا‏:‏ إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ‏.‏

واتفق جمهور العلماء على أن الشهادة على الخط لا تجوز إذا لم يذكر الشهادة ولم يحفظها‏.‏

قال الشعبى‏:‏ فلا يشهد أبدًا إلا على شىء يذكر، فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا‏.‏

وممن رأى أن لا يشهد على الخط وإن عرفه حتى يذكر الشهادة‏:‏ الكوفيون والشافعى وأحمد وأكثر أهل العلم، وقد فعل مثل هذا فى أيام عثمان صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فى قصة مذكورة فى مقتل عثمان‏.‏

وأحسن ما يحتج به فى هذا الباب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 81‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، وأجاز مالك الشهادة على الخط، فروى عنه ابن وهب فى الرجل يقوم يذكر حقا قد مات شهوده ويأتى بشاهدين عدلين يشهدان على كتاب ذكر الحق، قال‏:‏ تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب‏.‏

يعنى‏:‏ إذا كان قد كتب شهادته على المطلوب بما كتب عليه فى ذكر الحق؛ لأنه قد يكتب ذكر الحق من لا يشهد على المكتوب عليه‏.‏

قاله ابن القاسم‏.‏

وإن كان على خط اثنين جاز وكان بمنزلة الشاهدين إذا كان عدلا مع يمين الطالب وهو قول ابن القاسم‏.‏

وذكر ابن شعبان، عن ابن وهب قال‏:‏ لا آخذ بقول مالك فى الشهادة على معرفة الخط ولا تقبل الشهادة فيه‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ خالف مالكًا جميع الفقهاء فى الشهادة على الخط وعدوا قوله شذوذا؛ إذ الخط قد يشبه الخط، وليست الشهادة على قول منه ولا معاينة فعل‏.‏

وقال محمد بن حارث‏:‏ الشهادة على الخط خطأ؛ لأن الرجل قد يكتب شهادته على من لا يعرفه بعينه طمعًا أن لا يحتاج فى ذلك إليه وأن غيره يغنى عنه، أو لعله يشهد فى قريب من وقت الشهادة فيذكر العين، ولقد قال فى رجل قال‏:‏ سمعت فلانًا يقول‏:‏ رأيت فلانًا قتل فلانًا، أو سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها أنه لا يشهد على شهادته إلا أن يشهده فالخط أبعد من هذا وأضعف‏.‏

قال محمد بن حارث‏:‏ وقد قلت لبعض الفضلة‏:‏ أتجوز شهادة الموتى‏؟‏ فقال‏:‏ ما هذا الذى تقول‏؟‏ فقلت‏:‏ إنكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه فى وثيقة‏.‏

فسكت‏.‏

وقال محمد بن عبد الحكم‏:‏ لا نقضى فى دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالك‏:‏ إن الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور‏.‏

وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضى، ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز‏.‏

وأما اختلاف الناس فى كتب القضاة، فذهب جمهور العلماء إلى أن كتب القضاة إلى القضاة جائزة فى الحدود، وسائر الحقوق، وذهب الكوفيون إلى أنها تجوز فى كل شىء إلا فى الحدود، وهو أحد قولى الشافعى، وله مثل قول الجمهور، وحجة البخارى على الكوفى من تناقضه فى جواز ذلك فى قتل الخطأ وأنه إنما صار مالا بعد ثبوت القتل فهى حجة حسنة‏.‏

وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله فى الحدود وأحكامه حجة ولا سلف لأبى حنيفة فى قوله‏.‏

وذكر البخارى عن جماعة من قضاة التابعين وعلمائهم أنهم كانوا يجيزون كتب القضاة إلى القضاة بغير شهود عليها إذا عرف الكتاب والخاتم، وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث بكتبه إلى خيبر وإلى الروم، ولم يذكر أن النبى، عليه السلام، أشهد عليها‏.‏

وأجمع فقهاء المصار وحكامها على فعل سوار وابن أبى ليلى، اتفقوا أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض حتى يشهد عليه شاهدان لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط ونقش الخواتيم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين‏.‏

وروى ابن نافع، عن مالك قال‏:‏ كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتى إن القاضى ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيجاز له حتى اتهم الناس، فصار لا يقبل إلا بشاهدين، واختلفوا إذا أشهد القاضى شاهدين على كتابه ولم يقرأ عليهما ولا عرفهما بما فيه فقال مالك‏:‏ يجوز ذلك ويلزم القاضى المكتوب إليه قبوله بقول الشاهدين‏:‏ هذا كتابه ودفعه إلينا مختومًا‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور‏:‏ إذا لم يقرأه عليهما القاضى لم يجز ولا يعمل القاضى للمكتوب إليه بما فيه‏.‏

وروى عن مالك مثله‏.‏

وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد الشاهد إلا بما يعلم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وحجة من أجاز ذلك أن الحاكم إن أقر أنه كتابه فقد أقر بما فيه، وليس للشاهدين أن يشهدا على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنما الغرض منهما أن يعلم القاضى المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضى إليه، وقد يثبت عند القاضى من أمور الناس ما لا يجب أن يعلمه كل أحد مثل الوصية التى يتخوف الناس فيها ويذكرون ما فرطوا فيه‏.‏

ولهذا يجوز عند مالك أن يشهدوا على الوصية المختومة وعلى الكتاب المدرج ويقولوا للحاكم‏:‏ نشهد على إقراره بما فى هذا الكتاب‏.‏

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عماله ولا يقرؤها على رسله وفيها الأحكام والسنن‏.‏

واختلفوا إن انكسر ختم الكتاب فقال أبو حنيفة وزفر‏:‏ لا يقبله الحاكم‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ يقبله ويحكم به إذا شهدت به البينة وهو قول الشافعى، واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال‏:‏ كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الروم كتابًا وأراد أن يبعثه غير مختوم حتى قيل له‏:‏ إنهم لا يقرءونه إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من أجل ذلك، فدل أن كتاب القاضى حجة، وإن لم يكن مختومًا، وخاتمه أيضًا حجة‏.‏

باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلا يَشْتَرُوا بآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ الآية، وَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ‏(‏إلى‏)‏ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏‏)‏ بِمَا اسْتُحْفِظُوا ‏(‏اسْتُوْدِعُوا،‏)‏ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ‏(‏، وَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ‏:‏ قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ‏:‏ خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِى مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولا عَنِ الْعِلْمِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما استحباب الرجل القضاء فإن أهل العلم قالوا فى ذلك‏:‏ إذا رآه الناس أهلا لذلك ورأى هو نفسه أهلا لها، وليس أن يرى نفسه أهلا لذلك فقط؛ أنه إذا علم الناس منه هذا الرأى لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد إليه‏.‏

قال مالك‏:‏ ولا يستقضى من ليس بفقيه‏.‏

وذكر ابن حبيب، عن مالك أنه قال‏:‏ إذا اجتمع فى الرجل خصلتان رأيت أن يولى‏:‏ الورع والعلم‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا استوجب القضاة هل للسلطان أن يجبره على ولايته‏؟‏ قيل‏:‏ قد روى ابن القاسم، عن مالك أنه لا يجبر على ولاية القضاء إلا أن يوجد منه عوض‏.‏

قيل له‏:‏ أيجبر بالحبس والضرب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال المهلب‏:‏ والحكم الذى ينبغى أن يلزمه القاضى هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يورده أحدهما، وإن رآه غير نافع له فى خصامه فليصبر له حتى يبلغ المتكلم مراده؛ لأنه قد يمكن أن يكون ذلك الكلام الذى لا ينتفع به سببًا إلى ما ينتفع به، وأيضًا فإنه إذا لم يترك أن يتكلم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته وأثار على نفسه عداوة، وربما كان ذلك شيئًا لفتنة الخصم، ووجد إليه الشيطان السبيل، وأوهمه أن الجور من الدين‏.‏

وقوله‏:‏ صليبًا، يريد الصلابة فى إنفاذ الحق حتى لا يخاف فى الله لومة لائم ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وعشيرة وليكن عنده الضعيف والقوى، والكبير والصغير فى الحق سواء‏.‏

وقول الحسن‏:‏ أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس‏.‏

وما استشهد عليه من كتاب الله فكل ذلك يدل أن الله تعالى فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل، وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 85‏]‏، وكذلك فرض عليهم أن لا يخشوا الناس‏.‏

ولهذا قال عمر بن عبد العزيز فى صفة القاضى أن يكون صليبًا‏.‏

وقوله‏:‏ أن يكون عفيفًا‏.‏

أخذه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتى ثمنًا قليلا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏، فقالت طائفة‏:‏ الآية عامة فى كل الناس، وكل خصمين تقدما إلى حاكم فعليه أن يحكم بينهما، وسواء كان للحاكم ولد أو والد أو زوجة، وهم وسائر الناس فى ذلك سواء‏.‏

وذهب الكوفيون والشافعى إلى أنه لا تجوز شهادته له ويحكم لسائر الناس‏.‏

وزاد أبو حنيفة‏:‏ لا يحكم لولد والده وإن كانوا من قبل النساء، ولا لعبده وكاتبه وأم ولده؛ لأن هؤلاء‏:‏ لا تجوز شهادته لهم‏.‏

واحتلف أصحاب مالك فى ذلك فقال مطرف وسحنون‏:‏ كل من لا يجوز للحاكم أن يشهد له لا يجوز حكمه له، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم وزوجته ويتيمه الذى يلى ماله‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ يجوز حكمه للآباء والأبناء فمن فوقهم ومن دونهم إلا الولد الصغير الذى يلى ماله أو يتيمه أو زوجته، ولا يتهم فى الحكم كما يتهم فى الشهادة؛ لأنه إنما يحكم بشهادة غيره من العدول‏.‏

وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال‏:‏ ثبت له عندى‏.‏

ولا يدرى أثبت له أم لا ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرة بحق بيّن؛ فحكمه له جائز ما عدا زوجته وولده الصغير ويتيمه الذى يلى ماله‏.‏

كقول ابن الماجشون؛ لأن هؤلاء كنفسه، فلا يجوز له أن يحكم لهم، والقول الأول أولى بشهادة عموم القرآن له قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏

وخاطب تعالى الحكام فقال‏:‏ ‏(‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ فعم جميع الناس، وقد حكم النبى صلى الله عليه وسلم لزوجته عائشة على الذين رموها بالإفك وأقام عليهم الحد‏.‏

وليس رد شهادة الولد لوالده، والوالد لولده بإجماع من الأمة فيكون أصلا لذلك، وقد أجاز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية، وهو قول أبى ثور والمزنى وإسحاق‏.‏

باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا

وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ يَأْكُلُ الْوَصِىُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ السَّعْدِىِّ، ‏(‏أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى خِلافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِىَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ، قُلْتُ‏:‏ إِنَّ لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا، وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ لا تَفْعَلْ، فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِى أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ‏:‏ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالا، فَقُلْتُ‏:‏ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أن أرزاق الحكام من الفئ، وما جرى مجراه مما يصرف فى مصالح المسلمين؛ لأن الحكم بينهم من أعظم مصالحهم‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى هذا الحديث الدليل الواضح على أن من شُغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفئ وعمال الصدقة وشبههم؛ لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله الذى استعمله عليه، فكذلك سبيل كل مشغول بشىء من أعمالهم له من الرزق على قدر استحقاقه عليه وسبيله سبيل عمر فى ذلك‏.‏

قال غيره‏:‏ إلا أن طائفة من السلف كرهت أخذ الرزق على القضاء‏.‏

روى ذلك عن ابن مسعود والحسن البصرى والقاسم، وذكره ابن المنذر عن عمر بن الخطاب‏.‏

ورخص فى ذلك طائفة‏:‏ وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ على القضاء أجرًا، وروى ذلك عن ابن سيرين وشريح، وهو قول الليث وإسحاق وأبى عبيد، والذين كرهوه ليس بحرام عندهم‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا أخذ القاضى جعلا لم يحرم عليه عندى‏.‏

واحتج أبو عبيد فى جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحديث ابن السعدى حجة فى جواز أرزاق القضاة من وجوهها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما كره من كرهه؛ لأن أمر القضاء إنما هو محمول فى الأصل على الاحتساب، ولذلك عظمت منازلهم وأجورهم فى الآخرة، ألا ترى أن الله أمر نبيه وسائر الأنبياء أن يقولوا‏:‏ لا أسألكم عليه أجرًا؛ ليكون ذلك دليلا على البراءة من الاتهام‏.‏

ولذلك قال مالك‏:‏ أكره أجر قسام القاضى؛ لأن من مضى كانوا يقسمون ويحتسبون ولا يأخذون أجرًا‏.‏

فأراد أن يجرى هذا الأمر على طريق الاحتساب على الأصل الذى وضعه الله للأنبياء، عليهم السلام؛ لئلا يدخل فى هذه الصناعة من لا يستحقها أو يتحيل على أموال المسلمين، وأما من حكم بالحق إذا تصرف فى مصالح المسلمين فلا يحرم عليه أخذ الأجر على ذلك‏.‏

وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه استعمل ابن مسعود على بيت المال، وعمار بن ياسر على الصلاة، وابن حنيف على الجند، ورزقهم كل يوم شاة شطرها لعمار؛ وربعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف‏.‏

وأما العاملون عليها فهم السعاة المتولون لقبض الصدقات، ولهم من الأجر بقدر أعمالهم على حسب ما يراه الإمام فى ذلك، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وفى كتاب الوصايا اختلاف العلماء فيما يجوز للوصى أن يأكل من مال يتيمه‏.‏

وأما قول النبى صلى الله عليه وسلم لعمر فى العطاء‏:‏ ‏(‏خذه فتموله وتصدق به‏)‏ فإنما أراد صلى الله عليه وسلم الأفضل والأعلى من الأجر؛ لأن عمر وإن كان مأجورًا بإيثاره بعطائه على نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل أن الصدقة بعد التمول أعظم أجرًا؛ لأن خلق الشح حينئذ مستول على النفوس‏.‏

وفيه‏:‏ أن أخذ ما جاء من المال من غير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه يقع فى إضاعة المال، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏

باب مَنْ قَضَى وَلاعَنَ فِى الْمَسْجِدِ

وَلاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَضَى مَرَّوانٌ عَلَى زَيْد بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ ابْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِى الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ‏:‏ شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا‏.‏

وقال مرة فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ‏.‏

استحب القضاء فى المسجد طائفة منهم‏:‏ شريح والحسن البصرى والشعبى وابن أبى ليلى‏.‏

وقال مالك‏:‏ القضاء فى المسجد من أمر الناس القديم؛ لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس ويصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس، وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏

وكرهت ذلك طائفة وقالت‏:‏ القاضى يحضره الحائض والذمى وتكثر الخصومات بين يديه، والمساجد تجنب ذلك‏.‏

وروى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن ألا تقضى فى المسجد؛ فإنه يأتيك الحائض والمشرك‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ أحب إلىّ أن يقضى فى غير المسجد لكثرة من يغشاه لغير ما بنيت له المساجد‏.‏

وحديث سهل بن سعد حجة لمن استحب ذلك‏.‏

وليس فى اعتلال من اعتل بحضور الكافر والحائض مجلس الحكم حجة؛ لأنه لا تعلم حجة يجب بها منع الكافر من الدخول فى المساجد إلا المسجد الحرام، وقد قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم فى المسجد، وأخذ ثمامة ابن أثال من بنى حنيفة أسيرًا وربط إلى سارية من سوارى المسجد، فليس فى منع الحائض من دخول المسجد خبر يثبت، وقد نظر داود نبى الله بين الخصمين اللذين وعظ بهما فى المحراب وهو فى المسجد‏.‏

باب مَنْ حَكَمَ فِى الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، قَالَ‏:‏ أَبِكَ جُنُونٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ‏)‏‏.‏

فَقَالَ جَابِرَ‏:‏ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى اختلف العلماء فى إقامة الحدود فى المسجد فروى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بالذى وجب عليه الحد أن يقام عليه خارج المسجد، وكذلك فعل علىّ بن أبى طالب بالسارق الذى قدم إليه فقال‏:‏ يا قنبر، أخرجه من المسجد فاقطع يده‏.‏

وكره إقامة الحد فى المسجد مسروق وقال‏:‏ إن للمسجد حرمة‏.‏

وهو قول الشعبى وعكرمة، وإليه ذهب الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وفيها قول ثان روى عن الشعبى أنه أقام على رجل من أهل الذمة حدا فى المسجد‏.‏

وهو قول ابن أبى ليلى‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ وهو الرخصة فى الضرب بالأسواط اليسيرة فى المسجد، فإذا كثرت الحدود فلا يقام فيه وهو قول مالك وأبى ثور‏.‏

وقول من نزه المسجد عن إقامة الحدود فيه أولى لما شهد له حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر برجم الزانى فى المصلى خارج المسجد‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا ألزم من أقام الحد فى المسجد مأثمًا؛ لأنى أجد دليلا عليه‏.‏

وفى الباب حديثان منقطعان لا يقوم بهما حجة فى النهى عن إقامة الحدود فى المساجد‏.‏

باب مَوْعِظَةِ الإمَامِ لِلْخُصُومِ

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ أَنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِى عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألحن‏)‏‏.‏

يعنى‏:‏ أفطن لها وأجدل‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ اللحن‏.‏

بفتح الحاء‏:‏ الفطنة، واللحن بإسكان الحاء‏:‏ الخطأ‏.‏

وقد جاء هذا الحديث فى كتاب المظالم بلفظ آخر يشهد لقول أهل اللغة قال‏:‏ ‏(‏فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أنه ينبغى للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذر من مطالبة الباطل؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم وعظ أمته بقوله هذا‏.‏

باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى وِلايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ

وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ، فَقَالَ‏:‏ ائْتِ الأمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ‏.‏

وقال عِكْرِمَةُ‏:‏ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ‏:‏ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ‏:‏ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ‏:‏ صَدَقْتَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ‏:‏ زَادَ عُمَرُ فِى كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِى‏.‏

وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا أَرْبَعًا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ‏.‏

وقال حَمَّادٌ‏:‏ إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ، وَقَالَ‏:‏ الْحَكَمُ أَرْبَعًا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ‏:‏ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ، فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لألْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِى، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِى فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِى، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ‏:‏ سِلاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِى يَذْكُرُ عِنْدِى، قَالَ‏:‏ فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ كَلا، لا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ‏:‏ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَدَّاهُ إِلَىَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ‏)‏‏.‏

قَالَ عَبْدُاللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ‏:‏ فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَى مَنْ لَهُ بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ‏:‏ الْحَاكِمُ لا يَقْضِى بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِى وِلايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَقْضِى عَلَيْهِ فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ‏:‏ مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِى غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلا بِشَاهِدَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِى بِهِ؛ لأنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَقْضِى بِعِلْمِهِ فِى الأمْوَالِ، وَلا يَقْضِى فِى غَيْرِهَا‏.‏

وقال الْقَاسِمُ‏:‏ لا يَنْبَغِى لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِىَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِى الظُّنُونِ، وَقَدْ كَرِهَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الظَّنَّ فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ ‏(‏أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ، قَالا‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى الترجمة أن الشهادة التى تكون عند القاضى فى ولايته القضاء أو قبل ذلك لا يجوز له أن يقضى بها وحده، وله أن يشهد بها عند غيره من الحكام كما قال مالك، ولذلك ذكر قول شريح وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أن شهادته كشهادة رجل من المسلمين، واستشهد على ذلك بقول عمر أنه كانت عنده شهادة فى آية الرجم أنها من القرآن فلم يجز له أن يلحقها بنص المصحف المقطوع على صحته بشهادته وحده، وقد أفصح عمر بالعلة فى ذلك فقال‏:‏ لولا أن يقال زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها وعرفك أن ذلك من باب قطع الذرائع؛ لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم أنه على حق‏.‏

وأما ما ذكر من إقرار ماعز عند النبى صلى الله عليه وسلم وحكم النبى صلى الله عليه وسلم بالرجم دون أن يشهد من حضره، وكذلك إعطاؤه السلب لأبى قتادة بإقرار الرجل الذى كان عنده السلب وحده مع ما انضاف إلى ذلك من علم النبى صلى الله عليه وسلم ألا ترى قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏فعلم النبى صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى‏:‏ علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل فهو حجة فى قضاء القاضى بعلمه، وهو خلاف ما ذكره البخارى فى أول الباب عن شريح وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، فأورد البخارى فى هذا الباب اختلاف أهل العلم، وحجة الفريقين من الحديث بإقرار ماعز، وحديث أبى قتادة حجة لأهل العراق فى أن يقضى القاضى بعلمه وشهادته‏.‏

وحديث صفية، وحديث عمر فى آية الرجم حجة لأهل الحجاز أن القاضى لا يقضى بعلمه خوف التهمة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان أبعد الخلق من التهمة ولم يقنع بذلك حتى قال‏:‏ ‏(‏إنها صفية‏)‏ فغيره ممن ليس بمعصوم أولى بخوف التهمة، وإنما فعل ذلك ليسن لأمته البعد من مواضع التهم، وقد تقدم فى باب رأى القاضى أن يقضى بعلمه قبل هذا‏.‏

وقد رد بعض الناس حجة أهل العراق بحديث ماعز وأبى قتادة فقال‏:‏ ليس فيهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه؛ لأن ماعزًا إنما كان إقراره عند النبى صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة؛ إذ معلوم أنه كان لا يقعد صلى الله عليه وسلم وحده، وقصة ماعز مشهورة رواها عن النبى صلى الله عليه وسلم أبو هريرة وابن عباس وجابر وجماعة، فلم يحتج النبى صلى الله عليه وسلم أن يشهدهم على إقراره بالزنا لسماعهم ذلك منه، وكذلك حديث أبى قتادة، والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح عن الليث‏:‏ ‏(‏فقام النبى صلى الله عليه وسلم فأداه إلى من له بينة‏)‏ ورواية قتيبة عن الليث‏:‏ ‏(‏فعلم النبى صلى الله عليه وسلم‏)‏ وهم منه، فيشبه أن تتصحف‏:‏ ‏(‏فعلم النبى صلى الله عليه وسلم‏)‏ مع قوله‏:‏ ‏(‏فقام‏)‏ فلم يقض فيه بعلمه، ويدل على ذلك أن منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نادى يوم حنين‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه‏)‏ فشرط أخذ السلب لمن أقام البينة، وأول القصة لا يخالف آخرها، وشهادة الرجل الذى كان عنده سلب قتيل أبى قتادة شهادة قاطعة لأبى قتادة، لو لم تكن فى مغنم، وكان من الحقوق التى ليس للنبى أن يعطى منها أحدًا إلا باستحقاق البينة، والمغانم مخالفة لذلك؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم له أن يعطى منها من شاء ويمنع منها من شاء؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فلا حجة فيه لأهل العراق‏.‏

باب أَمْرِ الْوَالِى إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلا يَتَعَاصَيَا

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى‏:‏ أَنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَه وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فيه الحض على الاتفاق وترك الاختلاف لما فى ذلك من ثبات المحبة والألفة، والتعاون على الحق، والتناصر على إنفاذه وإمضائه، وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يسرا ولا تعسرا‏)‏ فهو أولى به‏.‏

باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِى‏.‏

وقد تقدم فى كتاب النكاح الاتفاق على وجوب إجابة دعوة الوليمة واختلافهم فى غيرها من الدعوات‏.‏

وذكر ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون قال‏:‏ لا ينبغى للقاضى أن يجيب الدعوة إلا فى الوليمة وحدها لما فى ذلك من الحديث، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا من غير تحريم، ولا عيب إن أكل إلا أن ذلك أنزه، وإنا نحب لذى المروءة والهدى أن لا يأتى الوليمة إلا أن يكون لأخ فى الله، أو الخالص من ذوى قرابته فلا بأس بذلك‏.‏

قال أشهب‏:‏ وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم‏.‏

باب هَدَايَا الْعُمَّالِ

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ‏:‏ اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا مِنْ بَنِى أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ ابْنُ اللَّتْبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ‏:‏ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ‏:‏ مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِى يَقُولُ‏:‏ هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِى، فَهَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه أن ما أهدى إلى العامل وخدمة السلطان بسبب سلطانهم أنه لبيت مال المسلمين، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هدايا الأمراء غلول‏)‏ إلا أن يكون الإمام يبيح له قبول الهدية لنفسه فلذلك تطيب له، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن‏:‏ قد علمت الذى دار عليك فى مالك، وإنى قد طيبت لك الهدية‏.‏

فقبلها معاذ وأتى بما أهدى له النبى صلى الله عليه وسلم، فوجده توفى، فاخبر بذلك أبا بكر فأجاز له أبو بكر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز له، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب احتيال العامل ليهدى له‏.‏

باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِى وَاسْتِعْمَالِهِمْ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ‏:‏ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، وَأَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أصل هذا الباب فى كتاب الله‏:‏ ‏(‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ والتقى وإن كان بحضرته أتقى منه لا يرفع عنه اسم التقى والكرامة، وقد قدم النبى صلى الله عليه وسلم فى العمل والصلاة والسعاية المفضول مع وجود الفاضل توسعة منه على الناس ورفقًا بهم‏.‏

باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ ‏(‏أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى عِتْقِ سَبْىِ هَوَازِنَ‏:‏ إِنِّى لا أَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا‏)‏‏.‏

اتخاذ الإمام للعرفاء والنظار سنة؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر بنفسه جميع الأمور، فلابد من قوم يختارهم لعونه وكفايته بعض ذلك، ولهذا المعنى جعل الله عباده شعوبًا وقبائل ليتعارفوا فأراد تعالى ألا يكون الناس خلطًا واحدًا فيصعب نفاذ أمر السلطان ونهيه؛ لأن الأمر والنهى إذا توجه إلى الجماعة وقع الاتكال من بعضهم على بعض فوقع التضييع، وإذا توجه إلى عريف لم يسعه إلا القيام بمن معه‏.‏